دائما هناك ..أمل..
كتب أنس الهلالي قصته بقلمه محاولاً رصد المحطات التي توقف عندها مستعرضاً دعم الأسرة وبعض أفراد المجتمع وراصداً لمحاولاته من أجل النجاح وممارسة حقه الطبيعي في الحياة.. في أن يكون إنساناً مشاركاً وخلاقاً في مجتمعه ...أن يكون المهندس أنس إبراهيم الهلالي ..
قرأت ما كتب وأنا أبحث عن مفتاح القصة ونقطة البداية والانطلاق .. فكانت عبارته "كنا نركض إليها" توقفت عند تلك العبارة ومن معرفتي لسنوات طويلة بشخصية الأم العظيمة ونهج الحياة وجدت نفسي أردد"وهي أيضاً كانت تركض إليكم ولم تتوقف يوماً عن الركض ..
..ما أسعد الاسرة العربية عندما يكون أول طفل لها "ذكراً" وحجم السعادة يتضاعف عندما يكونان "توأماً من الذكور..
ورغم ولادة أنس ومصطفى "خدجاً" واحتياجهم للبقاء فى الحاضنة لفترة كان الأمر لا يتعدى في نظر الأهل أنه إجراء مؤقت والموضوع موضوع وقت يحصل فيه الأطفال على الرعاية الكاملة ويعودان إلى حضن الوالدين بكل سلام.. ولأسباب متعددة لا تكون الحاضنات في أحيانٍ كثيرة هي المكان الآمن بل ربما تكون مكان حدوث مأساة أو مشكلة وهو ما حدث مع الصغيرين..
شهور وبدأت الأم رندا إمام الطبيبة المتميزة والتي سجل ملفها بالجامعة أعلى المعدلات الدراسية تلاحظ عدم استجابة الطفلين للأصوات.. وكانت تملك من الشجاعة ما جعلها تعلن أن هناك مشكلة ولم تهرب بالانكار والنفي والبحث عن أسباب ومبررات تسكن الشك بل بدأت الخطوات الصحيحة بالفحص والعرض على الطبيب المتخصص وكان النبأ الذى زلزل الكيان أن كلاً من الطفلين مصاب بنقص فى السمع بدرجة مختلفة..أنس ضعف سمع عميق ومصطفى ضعف سمع شديد.
في هذا الوقت كانت السماعات هى المعين السمعي المتوافر والمتاح ..وبدأ الطفلان فى استخدام السماعات الطبية ولكنها ليست الحل النهائى للمشكلة فهى الخطوة الأولى للتواصل والإحساس بالاصوات وحتى هذا الإحساس لا يصل بالقدر الطبيعي المطلوب وبخاصة في حالة انس..
فالأمل في أن يتكلم ويتواصل بالكلام دون الاشارة عملية لست بالسهلة أبداً ..في مجتمع تندر فيه الخبرات في هذا التخصص "التخاطب وتأهيل ضعاف السمع..
المتاح في عالمنا العربي منذ عشرين عاما لا يعدو بعض المدارس الخاصة بالصم والبكم وتعتمد على الإشارة وأفضل النماذج الموجودة بها تصيب بالاحباط..
كان على الأم الطبيبة والأب الذي يمتهن نفس المهنة ان يصلا إلى قرار..رغم صعوبته لكن لا خيار.!
توجهت الام الى الولايات المتحدة تدرس وتتخصص فى تأهيل ضعاف السمع مجال
لم تكن تدرس فقط بل تركض أيضاً في محاولة اختصار الوقت والتحصيل العلمى السريع والدقيق فقد تعلمت أيضاً مدى خطورة الوقت ..وعليها أن تتعلم وتعود..
عادت الأم وهى تحمل شهادة الماجستير في الإعاقة السمعية محققة أعلى النتائج فى هذا التخصص بعد عام أو يزيد من الغربة عادت الأم وركض إليها أطفالها ..كان اللقاء مشابها لتلك الصورة المترسخة فى الأذهان الأم تحتضن الأطفال بعد فترة من الغياب لقاء به شوق وحنين!
لكن فى تلك اللحظة وفى هذا الموقف لم يكن مجرد لقاء فقط كان عناقاً يحمل قسماً وعهداً بتغيير "القدر المحتوم" وفق مقاييس العصر" قدر ما تستطيع"، كانت أعينها تنشد الغد في أن يأتي سريعا لتبدأ ..
تبدأ التأهيل والتدريب وتجاهد ليصدر الصغار أصواتا وكلمات وجمل وعبارات..
سنوات من التدريب والجهد المبذول تمكن أنس من استخدام اللغة لكن البقايا السمعية القليلة المتاحة كانت التحدي الذى اضطر الطبيبة الأم إلى أن تلجأ إلى الاعتماد لبعض الوقت الى التواصل الكلى "بالكلام والاشارة"
فأحياناً كثيرة نجد أنفسنا مضطرين إلى اختيار أسوأ البدائل لأنها فقط هي المتاحة
منذ عشرين عاما كل ما توافر لأبناء تلك الفئة هو الحصول على التعليم وفقاً لمنظومة قاصرة ضمن مدارس خاصة بتلك الفئة فلم يكن منهج وأسلوب الدمج مطروحاً على الساحة..
التحق أنس بتلك المدارس كوسيلة للحصول على الشهادة العلمية لكنه أيضاً لم ينقطع عن التدريب في المركز الذي أسسته والدته في حلب وأمام إصراره على التحصيل العلمي تمكن من الالتحاق في المرحلة الإعدادية بإحدى المدارس العادية ..يقول أنس" كنت لا أفهم كثيرا الكلام الذي يقال وكنت أعتمد على الكتاب المدرسي كوسيلة للتحصيل العلمي وأحياناً اطلب المساعدة من الأصدقاء بلا خجل "
وأمام رغبته ونهمه في القراءة وتطوير لغته ..قبل هذا التميز بدعم عدد من مدرسات المركز " خيرية خياطة رحمها الله _ ديمة خانجى ولبابة علاء الدين وسمر وربى حفار ومنال احمدي ..وغيرهم بجانب مساعدة الأستاذ عبد الحميد الحريري "
على مدار سنوات الدراسة كان أنس يحقق معدلات مرتفعة بل كان له الريادة في القطر السوري كأول طالب بهذه الدرجة من الاعاقة ويستطيع الحصول على معدل "امتياز" بل إنه رفض أن يحصل على شهادة الإعدادية والثانوية من قطر آخر سوى وطنه وأعلن" أملي كبير فى أن أنجح فى وطني وبلدي وإذا رسبت فسوف أكرر المحاولة"
ولأن دائماً هناك أمل .!!
بدأ التفكير فى إجراء عملية زراعة القوقعة وأجرى انس تلك الجراحة ورغم إجرائها متأخراً لكنه استطاع أن يطوع قدرات هذا الجهاز لخدمته ويستمتع ولو متأخراً بأصوات البيئة من حوله..
فى كل يوم يجد أمامه تحدياً جديد لكن "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" فقد اختصه الله ليكون نموذجاً للآخرين ولتكون حياته درساً ومنهجاً ودافعاً لغيره بألا يستسلموا أبداً..
أعلن انس عن رغبته بالالتحاق بالجامعة "هندسة الكومبيوتر"
وشعر الجميع أن الحلم صعب المنال لكن الماضي يؤكد ان التجربة هى فقط صاحبة القرار ولها أن تقول إن الحلم سيتحقق أو إنه مجرد وهم وحلم مستحيل ..
شجع الأب الدكتور ابراهيم الهلالى طبيب الأشعة المعروف الابن بكل قوة ودعمه بكل إيمان بقدراته التحق الشاب القوي الإرادة بالجامعة ووجد أن اختياره محل ثناء من الجميع وشهد نظرة الفخر فى عيون الأب والأم ودعم قراره أفراد الأسرة وبدأت سنوات الدراسة
وقرر فى السنة الثالثة التركيز على تعلم البرامج ثلاثية الإبعاد وهى برامج تحتاج الى جهد كبير ووقت طويل وتفرغ ولا يمكن الجمع بينها وبين الدراسة الجامعية فتوقف مؤقتاً عن الدوام بالجامعة للتفرغ لدراسة برامج ثلاثية الإبعاد
وضع أنس لنفسه هدفاً وأملاً.. وهو على يقين أن تحقيقه لن يكون أبداً مستحيلاً
فقد حان الوقت لكي يزهو الأب ويفرح حقاً في أنه رزق بتوأم من الذكور.. وتسعد الأم وتفخر بإنجازها فقد ساهمت - بعد الله - في تغيير مجرى حياة أولادها وأبناء مئات الأسر الأخرى..
وإن كان الامس قدم لنا نماذج محدودة قد تألقت وتغلبت على احتياجاتها الخاصة فالغد سيقدم من كل وطن عربي عشرات وربما المئات من التجارب الصعبة ولكنها تجارب ناجحة .